عنوان المقال: أول بركان تم رصده
تُعد البراكين من أقدم الظواهر الجيولوجية التي رافقت تشكل القشرة الأرضية منذ نشأة الكوكب. ومنذ العصور القديمة، أولت الحضارات اهتماماً بالغاً لما يلفت النظر في الطبيعة من انفجارات نارية وتدفقات الحمم، إذ اعتُبرت تلك الظواهر خارقة للطبيعة أو رسائل من الآلهة، قبل أن يتطور العلم ويدخل في عمق الظاهرة البركانية لفهم آلياتها وأسبابها وتاريخها. ولعل من أبرز المحاور التي تناولها العلماء والمؤرخون هو: متى تم رصد أول بركان في التاريخ؟ وأي بركان كان أول من وثق نشاطه البشر؟
إن أول بركان تم رصده وتوثيقه بشكل مفصل في السجلات التاريخية هو بركان فيزوف الواقع في جنوب إيطاليا، قرب مدينة نابولي، والذي ارتبط اسمه بأحد أكثر الانفجارات البركانية دماراً في التاريخ القديم، حين دمّر مدينتي بومبي وهيركولانيوم في عام 79 ميلادية.
فيزوف: أول بركان موثق في التاريخ البشري
بركان فيزوف هو بركان طبقي يقع على الساحل الغربي لإيطاليا، ويُعد أحد أكثر البراكين نشاطاً في أوروبا. لكن شهرته الكبرى تعود إلى كارثة عام 79 م، والتي دمرت بالكامل حضارتين رومانيتين مزدهرتين، وهما بومبي وهيركولانيوم. ما يجعل هذا الانفجار مهماً في تاريخ البراكين هو وجود شهادات مكتوبة مباشرة عن الحدث من قِبل المؤرخ الروماني بليني الأصغر، الذي وصف بدقة، من وجهة نظر شخصية، مراحل الانفجار الذي قضى فيه عمه بليني الأكبر، قائد الأسطول الروماني والعالم الطبيعي المعروف.
بليني الأصغر كتب رسالتين مفصلتين إلى المؤرخ الروماني تاكيتوس، وهما اليوم من أهم الوثائق التي تُمكّن علماء البراكين من إعادة بناء الانفجار وتحليله. ولهذا السبب، يُطلق على نوع معين من الانفجارات البركانية في علم البراكين اسم “الانفجار البليني” (Plinian Eruption)، تكريماً لهذا التوثيق المبكر والدقيق.
الطبيعة الجيولوجية لبركان فيزوف
يقع فيزوف ضمن ما يُعرف بالحزام البركاني الإيطالي، الذي يُعد جزءاً من الحزام الناري للبحر الأبيض المتوسط. يتميز فيزوف بكونه بركاناً طبقيًا (Stratovolcano)، أي أنه مكوَّن من طبقات متعاقبة من الرماد والحمم المتصلبة، ما يجعله عرضة لانفجارات عنيفة ومفاجئة.
تكوّن فيزوف فوق ما يُعرف بـ”المنطقة الاندساسية” (Subduction Zone)، حيث تنزلق الصفيحة الإفريقية تحت الصفيحة الأوروبية. هذه الديناميكية التكتونية تؤدي إلى انصهار المواد في باطن الأرض وارتفاع الضغط، مما يتسبب في الانفجارات البركانية الدورية.
انفجار عام 79 م: لحظة تاريخية
وقع الانفجار المدمر لبركان فيزوف في 24 أغسطس من عام 79 ميلادية (حسب بعض التقديرات)، ونتج عنه اندفاع كميات هائلة من الحمم والصخور والرماد، غطّت مدينتي بومبي وهيركولانيوم بالكامل، مما أدى إلى مقتل عشرات الآلاف من السكان. وقد ساهم الرماد البركاني الكثيف في حفظ جثث الضحايا ومباني المدينة بشكل مذهل، مما أتاح للعلماء لاحقاً استكشاف أنماط الحياة اليومية لسكان الإمبراطورية الرومانية في تلك الحقبة.
الرماد والغازات الساخنة، إضافة إلى تدفقات الطين (Lahars) والانهيارات الجانبية، تسببت بتدمير مدن بأكملها خلال ساعات معدودة. واستمر البركان في الثوران لساعات متواصلة، مشكلاً سحباً بركانية شاهقة وطبقات من الرماد البركاني غطّت الأرض لعشرات الكيلومترات.
أهمية التوثيق البليني في تاريخ علم البراكين
ما يجعل رصد فيزوف مهماً ليس فقط ضخامته، بل وجود سجلات مكتوبة دقيقة من شاهد عيان، وهو أمر نادر في العصور القديمة. فقد كتب بليني الأصغر في رسائله إلى تاكيتوس وصفاً مفصلاً للمشاهدات التي رآها من خليج نابولي، منها شكل السحابة التي تصاعدت من قمة البركان والتي شبهها بـ”شجرة الصنوبر” لفرط تفرعاتها.
وقد استخدم العلماء هذه الأوصاف لاحقاً لفهم طبيعة الانفجار ونمط التدفق البركاني. وعليه، فإن انفجار فيزوف عام 79 م يعتبر أول رصد علمي مبكر لنشاط بركاني، معتمد على الملاحظة المباشرة والتوثيق الزمني.
البراكين في الحضارات السابقة: إشارات دون توثيق علمي
رغم أن بركان فيزوف يُعد أول بركان تم رصده وتوثيقه كتابياً بطريقة منهجية، إلا أن هناك إشارات كثيرة إلى البراكين في حضارات سابقة، خاصة في الأساطير والنقوش.
-
في حضارة المايا والأزتيك، اعتُبرت البراكين مساكن للآلهة، مثل بركان بوبوكاتبتل في المكسيك.
-
في الحضارة الإغريقية، ارتبطت البراكين بالإله هيفايستوس، وكان يُعتقد أن بركان إتنا في صقلية هو ورشته التي يصنع فيها الأسلحة.
-
في حضارة الرافدين، وُصفت الزلازل والانفجارات النارية في بعض النصوص الطينية القديمة، ولكن دون تحديد دقيق لاسم البركان أو توثيق الحدث بشكل علمي.
الجدول التالي يوضح مقارنة بين أقدم البراكين المعروفة تاريخيًا وموقعها والنوع الجيولوجي لكل منها:
| اسم البركان | الدولة | تاريخ أول ثوران موثق | نوع البركان | مصدر التوثيق |
|---|---|---|---|---|
| فيزوف | إيطاليا | 79 م | بركان طبقي | رسائل بليني الأصغر |
| إتنا | إيطاليا | ما قبل الميلاد | بركان طبقي | الأساطير اليونانية |
| هيكلا | آيسلندا | القرن 9 الميلادي | بركان مركب | السجلات الكنسية |
| فوجي | اليابان | 800 م تقريباً | بركان طبقي | الأساطير اليابانية + النقوش |
| كراكاتوا | إندونيسيا | 416 م تقريباً | بركان طبقي | سجلات جافا القديمة |
فيزوف بعد 79 م: نشاط مستمر وتاريخ طويل من الانفجارات
لم يتوقف نشاط فيزوف بعد الكارثة الشهيرة. فقد شهد عشرات الانفجارات عبر القرون، أبرزها في أعوام 1631، 1872، و1944، حيث كان الانفجار الأخير خلال الحرب العالمية الثانية، وأدى إلى تدمير قرى بأكملها ومطار عسكري تابع للحلفاء. ومنذ ذلك الحين، يُراقب البركان بشكل دائم من قبل المعهد الوطني للجيوفيزياء والبراكين في إيطاليا.
المنطقة المحيطة بفيزوف اليوم مأهولة بالسكان بشكل كثيف، إذ تضم مدينة نابولي وأكثر من ثلاثة ملايين نسمة، مما يجعل أي ثوران مستقبلي مصدر خطر داهم، وقد دفع ذلك السلطات إلى إعداد خطط طوارئ وإخلاء مفصلة.
الخاتمة: فيزوف نموذج مبكر لفهم الظواهر البركانية
يبقى بركان فيزوف رمزا مبكرا لعلاقة الإنسان بالبراكين، ليس فقط بسبب دمار ثورانه، بل لأهمية التوثيق العلمي المبكر الذي رافقه. فقد مثّل نموذجاً أولياً لفهم الظواهر الطبيعية بطريقة عقلانية تستند إلى الرصد والوصف الدقيق، وهو ما ساعد علماء البراكين عبر العصور في تطوير منهجيات دراسة سلوك البراكين وتاريخها التكويني.
وقد ساهمت الحفريات الأثرية في بومبي وهيركولانيوم، والتي بدأت في القرن الثامن عشر، في تعزيز المعرفة حول تأثير الكوارث البركانية على الحياة البشرية والحضارة، وعززت دور العلوم الطبيعية في حفظ التاريخ وتفسير الماضي.
المراجع:
-
Sigurdsson, H. (2002). The eruption of Vesuvius in A.D. 79. American Journal of Archaeology.
-
Scarth, A. (1999). Vesuvius: A Biography. Princeton University Press.
